" أعدِمـوا آخر ملك بأحشاء آخـر قسيس " .
**
إعدامٌ ميدانيّ في إحدى ساحات باريس |
لطالما تغنّى
" مثقفونا " بالثورة الفرنسية، وصدعوا رؤوسنا بما جلبته من حريّة،
وعدالة، وتقدمّ ... إلخ إلى غير ذلك من النتائج الورديّة الجميلة .. مبجلين نتائجها، ومتناسين أنها
كانت من أشدّ حقبات فرنسا دمويّة، حتى قدّر أن من أعدموا خلالها بلغ عددهم 40 ألف
شخص أو يزيدون!
الآن، لو
أردنا الحكم على مثل هذه الثورة بمنظور أخلاقيّ مُطلق. أي لو اعتبرنا بعض
الأخلاقيات من المسلّمات التي لا يجوز خرقُها بأيّ حال من الأحوال ومهما كانت
الغاية والمآل، هل يمكن لأي إنسان أن يقول إنه لو كان حينذاك في باريس، شاهد عيانٍ
على هذه الدمويّة، إنه يرتضي ذلك، بل ويحرّضُ عليه. لماذا؟ لمجرّد تفتّق ذهنه عن
مفاهيم غامضة، فضفاضة، هلاميّة على شاكلة " حريّة، مساواة، إخاء".
**
أدر شريطَ
التاريخ مائتي سنة ونيّف، ووجّه نظركَ تلقاء الضفّة الأخرى للمتوسّط لتجد ليبيا
الثورة عام 2011. فارقٌ في التاريخ والمكان، نعم. لكن، ربّما بعضُ الشبه.
شرارة.
مظاهرات. ثورة شعبيّة. دمٌ. قتالٌ. حربٌ أهليّة. انتصار. ربما اختصارُ الدموع
والدم المسكوبُ منذ فبراير 2011 فيه إهانة لمشاعر الكثيرين، لكن أزعمُ أنّه وصفٌ
مقاربٌ للحقيقة.
**
الآن، أدر
شريط الأحداث سنة بعد ذلك، لتقف عند تاريخنا اليوم 20 – 10 – 2012. مدينةٌ ما،
ارتبط اسمها بعقيد سابقٍ مقبُور يُصادفُ اليوم ذكرى انتقاله من عالمنا إلى الجحيم كما نأمل. دفع كثيرٌ
من أبنائها دمهم دعماً له، ودفاعاً عنه. تمكنّت بحرفيّة من التهرّب من مصير أختها مسقط رأس العقيد المذكور آنفاً. تمكنت بعد هذا الهروب
الكبير من احتضان بقايا العقيد ولملمة شتات مريديه الذين تفرّقوا في الأمصار، وضاقت
عليهم الأرضُ بما رحبت. صارت بعدها، النسخة الليبية لمثلث برمودا، بقعة سوداء لم
يستطع سيل الثورة الوصول لها، فكبرت حتى صارت ورماً ربّما يزُول مع الأيام من
تلقاء نفسه، لكن قد يتحوّل لورم خبيثٍ يودي بحياة جسم البلاد المنهك.
نحنُ إذن
أمام خيارين، أحلاهما مرّ. تركُ المشكلة على حالها أملاً في أنّها ستتمكن بشكل
سحريّ من استئصال نفسها. أو القيامُ بعمليّة جراحية طارئة ومستعجلة، كان المفرُوض
أن يُشرعَ فيها شهوراً طويلة قبل الآن.
لكنّ، من
نحنُ لنختار. فالقدرُ سيّر الأمور إلى أن اشتعلت جبهةٌ هُناك، يحلُو للكثير منّا
وصفُها بالحرب القبليّة لثارات تاريخيّة تعزّزت وقت الثورة. قد يكون الأمر كذلك ..
لكن، أريد أن أختم بمجموعة أسئلة ..
هل توقّفت
ليبيا يوماً من أن تكون دولة قبليّة، إلا في مدينة أو مدينتين أو ثلاث ربّما .. ؟
ألم تلعب
القبليّة دوراً في ترجيح كفّة الثوار تارة، وتارة كفّة القذافي .. ؟
هل من
المنطقيّ أن نصدّق أن جُلّ الشباب الذين ضحّوا بأنفسهم خلال الثورة فعلوا ذلك من
أجل الحريّة والديمقراطية وغيره من الكلام الجميل المنمّق، أم الصحيح والأقرب
للعقل والتصديق أنّ الاصطفاف كان في مجمله مبنيّا على قبيلة الإنسان، والمنطقة
الجغرافية التي شاء القدرُ أن يضعهُ فيها .. ؟
ثمّ، ننتقلُ
إلى سؤال محرج ٍ أكثر ..
هل مازال
فينا من يدّعي أن ثورتنا – المجيدة بوصف الكثيرين – كانت ثورة نظيفة لم ترتكب
فيها أيّ جرائم حرب .. ؟
ألم يُقتلْ
مدنيّون عُزّل خلال قصف النيتو وحين دخول الثوار لمدن كثيرة ..؟ ألم يكن من بين هؤلاء أطفالٌ لا
ذنب لهم، ونساءٌ لا قوّة لهم، وعجائزُ لا مفرّ لهم .. ؟
ألم تحصُل
سرقاتٌ ونهبٌ وحرقٌ .. و و و إلخ ..
ألم نكُن
نصفّق للثوار اقتحامهم لمدن ٍ جديدة، ونحنُ ندرك باطنيّا أنّ جرائم ستحدُث، وإنْ رفضنا وقتها بداعي حلم الثورة الورديّ أن نعترف بذلك .. ؟
لا شكّ لديّ
أنّ كلّ ما ذكرتُ أعلاه قد وقع، صدّق من صدّق وأنكر من أنكر .. لكن، كلّ هذا؛ الحربُ الأهليّة، التعصّب القبليّ، جرائمُ الحرب .. كلّ هذا يسهُلُ علينا التغاضي
عنهُ .. لماذا ..؟ من أجل أمل ٍ ما .. من أجل مجموعة من الأحلام الغامضة الفضفاضة الهلاميّة،
تدورُ بخلدنا كما دارت أحلامٌ ما بخلد رجل ٍ باريسيّ قبل مائتي عام.
**
إذا أقررنا
بهذا، فلا أدري ما وجهُ الاعتراض في إزالة الورم المذكور.
إن كانت الأخلاقيات
مرتبطة بزمان ما، فهذا يجعلها مصلحجيّة مزدوجة المعايير ما يتعارضُ مع جوهرها.
لكنّ الإقرار بأنّ
الغايات قد تبرّر أبشع الوسائل قد يريح ضمائرنا. ليجعلنا نقف في صف عمليّة لن تكون
نزهة، بل سيتكرّرُ فيها سيناريو خطايا الثورة، لكن من شأنها أن تقرّبنا – ولو وهماً
– من تلك الأحلام المنشودة.