الاثنين، 24 ديسمبر 2012

استقلالٌ .. مزيّف ؟..



يبدو أنّ شهر ديسمبر مكتُوبٌ عليه في سابق القدر أن يحتفظ بتواريخَ مهمّة. قبل أيام كان زمرةٌ من النّاس ينتظرون انتهاء العالم يوم الحادي والعشرين حسب نبوءة تقويم قبائل المايا القديمة (هذه القبائل لا تندرج ضمن قبائلنا "الشريفة"؛ فيُرجى عدم الخلط). وسطُ مدينة مانشستر  التي أقطنُ احمرَّ كأنفِ فتاةٍ إنجليزيّة في هذا الصقيع. إنه لونُ زينة الميلاد المجيد – بتعبير المسيحيين العرب – في ذكرى ميلاد المسيح.

في ليبيا تزيّنت الحسابات الشخصيّة للكثيرين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بصورٍ تذكّر بيوم الرابع والعشرين من ديسمبر؛ الذكرى الحادية والستين لاستقلال ليبيا (أو بالأحرى اتحادها وتكوينها) سنة 1951. الجميلُ بشأن المواطن الليبيّ – كغيره من بني البشر في نظري – أنّه على استعدادٍ أن يحتفلَ وقتما شاء. يحتاجُ فقط إلى سبب، أيّ سبب كان. مناسبةٌ ليفرح، ويحسّ بالمجدِ، وليستحضرَ دماء الأجداد، ويقبّل التراب تحتها. الجميلُ أيضاً أنّه لا يقرأ كثيراً، لذا لن يحسّ بأدنى انفصامٍ في الشّخصيّة محتفلاً بالاستقلال الذي كان قبل زهاء سنتينِ يُنعتُ بـ "المُزيّف" في كلّ كتب التاريخ.

لكن، المثير للحزن والاكتئاب، هو ذاتُ هذا السلُوك. صحيحٌ أنّ الثورة تغيّر بعض الأشياء. لكن تغيير الوعي بالتاريخ لا يأتِي بمجرّد ذكرِ مناسبةٍ خاوية المعانِي إلّا من الاحتفال بمجدٍ قديم. تغيير هذا الوعي  (أو تكوينه بالأحرى) لا يحدُث حقيقةً بسبب انتصارِ طرفٍ على آخر في حربٍ ما؛ مهما بلغَ المجدُ والتضحية فيها.

انتصارُ الثورة لا يعني أننا تعلّمنا من عهد الأجداد. لا يعني أصلاً أننّا أعطيناه أيّ اعتبارٍ. فنحنُ الآن عاجزُون عن تعرية ثورتنا وتشريحها، فما بالُك بأحداثٍ جاوزت نصف القرنِ من الزّمان، نسيتها أجيالٌ، وطمستها أيدٍ، وتلاعبت بها أقلامٌ. قليلٌ من "مفكّرينا" من استغلّ هامشَ الحرّية الذي توسّع لكي يبحثَ وينقّبَ ويكتُب وينشر. هذه النّدرة قد يكون لها مبررّاتها، وقد تكون مجرّد تعبيرٍ صارخٍ للفقر الفكريّ المُدقع في بلد ملايين البراميل السوداء. مجرّد انعكاسٍ آخر للتّصحّر الثقافيّ المستمدّ من بداوتنا بالطّبيعة.
الزعيم بشير السعداوي 

سيحدّثنا الكثيرون عن الملكِ الصّالح، عن جهادِه وجهادِ أجداده. سيحدّثوننا عن إقراره لدعوتنا المشؤومة "إبليس ولا إدريس". سيتحسّرون على روعة ليبيا في الخمسينيّات والستّينات. بطبيعة الحال، لن يذكروا قصّة الاستقلال كاملة. لن تجري الألسنة بذكر رجال هضمتهم الحقبة الملكيّة بعد نضالهم المرير مثل الزعيم بشير السعداوي ورفيقه أحمد زارم وغيرهم. ولن تحكي ألسنتهم أيّ مشاكل مرّت بها العشرينيّة الملكيّة. كما لن يحلّلوا الأسباب المنطقيّة التي أدّت لزعزعة هذا الحكم من جذوره، ونكبِ ليبيا بملازمٍ لازمها أربعينيّة سوداء. حسبُهم التصفيقُ وكفى. ..!



ستنصبُ الأعلامُ، وستُلقى الخطبُ، ثمّ يعودُ كلّ شابّ ليبيّ إلى بيته، مستمتعاً بالاستقلالينِ القديم والجديد. القديمِ الذي حُدّثَ عن عظمتِه ولم يرهَا. والجديدُ الذي يتمرّغُ في بركاتِ إنجازاتهِ الّتي سيتغنّى بها كثيراً على مسامِعِ أبنائه الممتعضين.   

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

ليبيا : الأخبارُ والسيَـر ..






نقلا عن مصادر خاصة
    قالت تسريباتٌ من مصادر مطلعة إن عبدالله السنوسي يشرع في كتابة مذكراته بعنوان "وحشٌ مظلوم ". الكتابُ الذي يُتوقّعُ أن يتصدّر مبيعات السُوق الليبيّ بما يكشفه من أسرارٍ وحقائق تكشفُ الوجه الآخر لـسفّاح [أبوسليم] ..

هذا وسيطلق بوزيذ دوردة قريبا مذكراته الخاصة بعنوان "يوميات وزير متنقل " يروي فيها الوزيرُ الرّحالة أخبار حلّه وترحاله .. 


المهدي العربي يلتحق بالركب أيضا. فحسب تسريبات أن دار الفرجاني تحصلت على حقوق نشر كتابه "خيانة عُظمى " يحاولُ فيه تفنيد ادّعاءات الخيانة التي أُلصقَت باسمه كما قال في لقاءٍ أجرتهُ معهُ وكالة أسوشيتد برس.  

أخيراً وليس آخراً، في جهدٍ مُشترك بين سيف الإسلام القذافي وجلود ، سيرى النّورَ في مطلع يناير القادم كتابُهما " من بني وليد إلى الزنتان " .. لكنّ مصادر أخرى قالت إنّ الكتابَ سيُنشرُ في وقت ٍ لاحق من 2013 لصعوبة ترتيب لقاءات عملٍ تناسبُ جدول عمل كلّ من المؤلفيْن.. 

عشّاقُ الفكر الأخضر سيفرحُون لمعرفتهم اعتزام أحمد إبراهيم إلى جمع كل الكتب المذكورة أعلاه في موسوعة بعنوان " الأعمال الخضراء الكاملة " الذي يذكُر نقّادٌ أنّه سيرشّح لجائزة أفضل كتاب عالميّ في مهرجان القاهرة القادم. 

"


السبت، 20 أكتوبر 2012

أخلاقيات الثورة، وخطايا الحرب الأهلية ..


" أعدِمـوا آخر ملك بأحشاء آخـر قسيس " .

**

إعدامٌ ميدانيّ في إحدى ساحات باريس
لطالما تغنّى " مثقفونا " بالثورة الفرنسية، وصدعوا رؤوسنا بما جلبته من حريّة، وعدالة، وتقدمّ ... إلخ إلى غير ذلك من النتائج الورديّة الجميلة .. مبجلين نتائجها، ومتناسين أنها كانت من أشدّ حقبات فرنسا دمويّة، حتى قدّر أن من أعدموا خلالها بلغ عددهم 40 ألف شخص أو يزيدون!

الآن، لو أردنا الحكم على مثل هذه الثورة بمنظور أخلاقيّ مُطلق. أي لو اعتبرنا بعض الأخلاقيات من المسلّمات التي لا يجوز خرقُها بأيّ حال من الأحوال ومهما كانت الغاية والمآل، هل يمكن لأي إنسان أن يقول إنه لو كان حينذاك في باريس، شاهد عيانٍ على هذه الدمويّة، إنه يرتضي ذلك، بل ويحرّضُ عليه. لماذا؟ لمجرّد تفتّق ذهنه عن مفاهيم غامضة، فضفاضة، هلاميّة على شاكلة " حريّة، مساواة، إخاء".

**

أدر شريطَ التاريخ مائتي سنة ونيّف، ووجّه نظركَ تلقاء الضفّة الأخرى للمتوسّط لتجد ليبيا الثورة عام 2011. فارقٌ في التاريخ والمكان، نعم. لكن، ربّما بعضُ الشبه.

شرارة. مظاهرات. ثورة شعبيّة. دمٌ. قتالٌ. حربٌ أهليّة. انتصار. ربما اختصارُ الدموع والدم المسكوبُ منذ فبراير 2011 فيه إهانة لمشاعر الكثيرين، لكن أزعمُ أنّه وصفٌ مقاربٌ للحقيقة.

**


الآن، أدر شريط الأحداث سنة بعد ذلك، لتقف عند تاريخنا اليوم 20 – 10 – 2012. مدينةٌ ما، ارتبط اسمها بعقيد سابقٍ مقبُور يُصادفُ اليوم ذكرى انتقاله من عالمنا إلى الجحيم كما نأمل. دفع كثيرٌ من أبنائها دمهم دعماً له، ودفاعاً عنه. تمكنّت بحرفيّة من التهرّب من مصير أختها مسقط رأس العقيد المذكور آنفاً. تمكنت بعد هذا الهروب الكبير من احتضان بقايا العقيد ولملمة شتات مريديه الذين تفرّقوا في الأمصار، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت. صارت بعدها، النسخة الليبية لمثلث برمودا، بقعة سوداء لم يستطع سيل الثورة الوصول لها، فكبرت حتى صارت ورماً ربّما يزُول مع الأيام من تلقاء نفسه، لكن قد يتحوّل لورم خبيثٍ يودي بحياة جسم البلاد المنهك.

نحنُ إذن أمام خيارين، أحلاهما مرّ. تركُ المشكلة على حالها أملاً في أنّها ستتمكن بشكل سحريّ من استئصال نفسها. أو القيامُ بعمليّة جراحية طارئة ومستعجلة، كان المفرُوض أن يُشرعَ فيها شهوراً طويلة قبل الآن.

لكنّ، من نحنُ لنختار. فالقدرُ سيّر الأمور إلى أن اشتعلت جبهةٌ هُناك، يحلُو للكثير منّا وصفُها بالحرب القبليّة لثارات تاريخيّة تعزّزت وقت الثورة. قد يكون الأمر كذلك .. لكن، أريد أن أختم بمجموعة أسئلة ..

هل توقّفت ليبيا يوماً من أن تكون دولة قبليّة، إلا في مدينة أو مدينتين أو ثلاث ربّما .. ؟

ألم تلعب القبليّة دوراً في ترجيح كفّة الثوار تارة، وتارة كفّة القذافي .. ؟

هل من المنطقيّ أن نصدّق أن جُلّ الشباب الذين ضحّوا بأنفسهم خلال الثورة فعلوا ذلك من أجل الحريّة والديمقراطية وغيره من الكلام الجميل المنمّق، أم الصحيح والأقرب للعقل والتصديق أنّ الاصطفاف كان في مجمله مبنيّا على قبيلة الإنسان، والمنطقة الجغرافية التي شاء القدرُ أن يضعهُ فيها .. ؟

ثمّ، ننتقلُ إلى سؤال محرج ٍ أكثر ..

هل مازال فينا من يدّعي أن ثورتنا – المجيدة بوصف الكثيرين – كانت ثورة نظيفة لم ترتكب فيها أيّ جرائم حرب .. ؟

ألم يُقتلْ مدنيّون عُزّل خلال قصف النيتو وحين دخول الثوار لمدن كثيرة ..؟ ألم يكن من بين هؤلاء أطفالٌ لا ذنب لهم، ونساءٌ لا قوّة لهم، وعجائزُ لا مفرّ لهم .. ؟

ألم تحصُل سرقاتٌ ونهبٌ وحرقٌ .. و و و إلخ ..

ألم نكُن نصفّق للثوار اقتحامهم لمدن ٍ جديدة، ونحنُ ندرك باطنيّا أنّ جرائم ستحدُث، وإنْ رفضنا وقتها بداعي حلم الثورة الورديّ أن نعترف بذلك .. ؟

لا شكّ لديّ أنّ كلّ ما ذكرتُ أعلاه قد وقع، صدّق من صدّق وأنكر من أنكر .. لكن، كلّ هذا؛ الحربُ الأهليّة، التعصّب القبليّ، جرائمُ الحرب .. كلّ هذا يسهُلُ علينا التغاضي عنهُ .. لماذا ..؟ من أجل أمل ٍ ما .. من أجل مجموعة من الأحلام الغامضة الفضفاضة الهلاميّة، تدورُ بخلدنا كما دارت أحلامٌ ما بخلد رجل ٍ باريسيّ قبل مائتي عام.

**

إذا أقررنا بهذا، فلا أدري ما وجهُ الاعتراض في إزالة الورم المذكور.

 إن كانت الأخلاقيات مرتبطة بزمان ما، فهذا يجعلها مصلحجيّة مزدوجة المعايير ما يتعارضُ مع جوهرها.

لكنّ الإقرار بأنّ الغايات قد تبرّر أبشع الوسائل قد يريح ضمائرنا. ليجعلنا نقف في صف عمليّة لن تكون نزهة، بل سيتكرّرُ فيها سيناريو خطايا الثورة، لكن من شأنها أن تقرّبنا – ولو وهماً – من تلك الأحلام المنشودة.

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

ما الذي خسرته ليبيا .. ؟

المقالُ بقلم (إيثان كورين) ونُشر في جريدة النيويورك تايمز. الكاتب هو صاحب كتاب (خروج القذافي: القصة الخفيّة لثورة ليبيا). وهو من مؤسسي مجموعة (ابن سينا Avicenna) وهي منظمة غير ربحية تعمل لصالح المؤسسات الطبية الليبية.
ترجمة: أنس أبوميس) 

صباح الأربعاء، كان مخططا أن ألتقى وزملائي في اجتماع ببنغازي مع (كريستوفر ستيفنز)، السفير الأمريكي في ليبيا، من أجل مناقشة خطة لقسم طوارئ جديد في مستشفى بنغازي المركزي، أكبر وأحدث مستشفى في شرق ليبيا. الاجتماع لم ينعقد أبداً. ففي الليلة السابقة، حاصرت ميليشيات القنصلية الأمريكية في بنغازي، قاتلة السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين. نُقل السفير، دون نبض في قلبه، إلى المستشفى الذي كُنّا نأملُ أن نطوّره.

مسودة الاتفاق الذي كنا نعملُ عليه كان من نوعية المجهود بعيد النظرة الذي كان السفير ستيفنز يحبه – وهو في هذه الحصالة، تعاونٌ بين أطباء في (بوسطن) وبنغازي، برعاية منظمة غير حكومية أسستُها شخصيّاً مع ليبيين ذوي جنسية أمريكية بعد الثورة. هدفنا كان إنشاء مركز طبيّ بالإضافة إلى مركز للتدريب لشرق ليبيا كله. كان من نوعية الشراكة الخاصة-العامة والليبية-الأمريكية التي كان السفير ستيفنز يؤمن أنها ستساعد ليبيا للتقدم بعد عقود من الركود والاستبداد.

مساء الثلاثاء، حين كان الذين سيقتلونه لاحقاً يقتربون من المكان، كان السفير ستيفنز يخبرنا عبر الهاتف بحجم سعادته بالمشروع الذي قاربت ثماره أن تنضج. أخبرنا أنه من المهم أن نبدي دعم حكومتنا لمثل هذه المبادرات، وقررنا الاجتماع بالمدير العام للمركز (د.فتحي الجهاني) في المستشفى في اليوم التالي. الدكتور الجهاني نفسه استهدفته أحداث العنف وذلك لآرائه التقدميّة.

بعدها بنصف ساعة، اتصلت بمسؤولي أمن السفير لتنسيق تفاصيل زيارة الغد، الرّدُ الوحيد الذي سمعت هو " لدينا مشكلة هنا " بلهجة عنيفة بشكل مقلق. انقطع الخط. تــُـركنا لنستمع بعجزٍ لصوت العُنف البعيد يجوب المدينة تجاه غرفتنا في الفندق. صوت القواذف صاروخيّة، والنيران الرشاشة استمر لحوالي ساعة.
السفير ستيفنز وصل بعد منتصف الليل لمركز بنغازي الطبّي، حيث كان يُفترضُ أن نلتقي. استمرّ كادرُ غرفة الطوارئ، الذي ضمّ ليبيين عادوا من وظائف عالية الأجور في الغربة، لمدة 45 دقيقة محاولين إنعاشه. لم يكن هذا ذا أيّ فائدة.

المأساوية فيما حصل هي ببساطة مُتراكبَة. في كتابٍ سيصدُرُ قريباً حول الثورة الليبية، أجريتُ مقابلات مع كثير من المسؤولين الغربيين الحاليين والسابقين، والذين كانوا إما متشائمين وإما غيرمبالين بألم ليبيا المتعاظم. في نظرهم، كانت ليبيا مجرّد حدثٍ جانبيّ في تيار الربيع العربيّ العريض.

السفير ستيفنز لم يتفق مع وجهة النظر هذه. ناقشتُ معه مستقبل ليبيا في الربيع الماضي في مقهى بواشطن، حيث كان ينتظر تأكيد تكليفه كسفير في ليبيا. كان من قبلُ نائب رئيس البعثة إلى ليبيا، وقد كان مبعوث الولايات المتحدة إلى بنغازي خلال الأيام الخطيرة الأولى من الثورة. لذا، فإنه قد عرف ليبيا جيدا، وقد آمن بأنها ستصبحُ أولى قصص النجاح في الربيع العربي، آمن بأن التطرف الإسلاميّ يمكن تقليل أثره لو تصرفت الحكومات الغربيّة بشكل حاسم لوضع البلاد في مسار الاستقرار والتقدم الاجتماعي.

الآن، موته قد يعرقل العمل ذاته الذي روّج له.

السيّد ستيفنز فهم أن الليبيين قد عانوا تحت العقيد معمّر القذافي، وأن الحرب وعدم الاستقرار بعد الثورة كان متوقعاً.
وفهم أيضاً أن بعض، إن لم يكن كل، الكراهية التي دفعت بعض الشباب الليبيين للانضمام لجماعات متطرفة في أفغانستان والعراق قد نبعت من سنين من التهميش والظلم. لقد أحسّ أن فرصاً جديدة يجبُ أن تخلق لإبعاد الناس عن مثل هذه الأيديولوجيات المتجذرة في الكراهية.

لا شك أن هذا كان سببا في زياراته المتكررة لبنغازي، مدينة الشرق الكبرى، رغم المخاطر الواضحة؛ فقد حصلت هجومات على دبلوماسيين مرموقين هناك في الأشهر الماضية. من المحيّر حقّا في مثل هذا الوقت ضعف تأمين القنصيلية الأمريكية، لكنّي لستُ مندهشاً إن كان السيد ستيفنز قد قرر البقاء ليلة في بنغازي ببساطة لأنّ لائحة اجتماعاته القادمة بالليبيين هناك كانت طويلة جدّاً لدرجة منعت تحقيقها في نهار واحد.
في الصباح التالي للهجوم على القنصلية، رجعتُ وزملائي للمركز الطبي، حيث شاهدنا الحزن الغامر، أو كما قال أحدُ الأطباء " الشعور بالعار ". أولئك الذين عملوا لإنقاذ السيد ستيفنز انهمروا في البكاء، وكذلك الطبيب الذي كان مسؤولا. بعضهم عرف السيد ستيفنز شخصيّا والتقى به مُسبقاً، بعضهم لم يره من قبل. لكنهم كانوا جميعاً مدركين أنه كان من أبطال ليبيا، وبنغازي تحديداً، وأن موته قد يكون جرّ بنغازي إلى الخلف عدّة أشهر بعد إنجازاتها الثورية المذهلة؛ هذا إن لم يخلق ما حدث فترة من عدم الاستقرار في شرق ليبيا كله. كثيرٌ من الليبيين خارج المستشفى قدموا عزاءهم وأسفهم العميق لخسارة أمريكا.

في الغرب، يمكننا أن نتوقع توجهاً قويّا بين الحكومات والشركات الخاصة لإعلان فشل التجربة الليبية، وللرد بنفض اليد منها، وتفضيل التراجع أو التركيز على اجتثاث العناصر المتطرفة. سيكون هذا خطأ فادحا. هذا الهجوم قد دخل إلى المناظرة الرئاسية الأمريكية، (ميت رُومني) رد فعله الغريزيّ هو انتقاد الرئيس أوباما لتوقيت إدانة الهجوم. لكن وزيرة الخارجية الأمريكية (هيلاري كلينتون) أصابت حين وصفت شعب ليبيا بالحلفاء في الحرب ضد التطرف.

سيكون الخطأ الأكبر أن تعتبر الولايات المتحدةُ ليبيا بأنها ملاذٌ للإرهاب لا سبيل لإصلاحه، أو أن يندم الساسة في واشنطن لتدخلهم لدعم ثوار ليبيا. ليبيا لازلت اليوم في وضع أفضل بكثير مما كانت تحت القذافي. قبضة الخوف قد انكسرت. الملصقات الانتخابية تزينُ البلاد. الجدولُ الزمنيّ للانتخابات كان اتـُبعْ. هناك ثراءٌ في حرية التعبير للأفراد.

مع كل ما ذكر، يحتاج الليبيون المساعدة لتثبيت مكاسبهم، وللاستمرار في محاربة المتطرفين المدعومين من الخارج بشكل كبير، والذين يأملون في الركوب على الثورة باسم التعصّب. على الولايات المساعدة دعم الليبيين في مسعاهم هذا. آملُ أن خسارة السفير ستيفنز ستحث السلطات الليبية للإيفاء بوعودها في اتخاذ خطوات شجاعة لتصعيد الحملة لقمع التطرف وتجريد الميليشيات من سلاحها، كما نجحت في وعدها بإقامة الانتخابات في وقتها. يجب أن تطلب ليبيا مزيداً من الدعم من الحكومة الأمريكية في هذه المجهودات، تماماً كما تشجعُ المؤسسات الأمريكيّة لإيجاد قاعدة مشتركة مع نظائرهم الليبيين عملاً من أجل تحسين حياة المواطنين الليبيين.

في هذا الأسبوع خسرت الولايات المتحدة رجلاً من أكثر موظفيها إثارة للإعجاب، وأستطيع القول إن بعض الليبيين على الأقل يدركون بعمقٍ خسارتهم له أيضاً. حال وصولنا للمطار مع مرافقنا المسلح، توجه لنا شخصٌ من موظفي المطار بالقول: " اليوم، سأرجعُ لبيتي، سأنزعُ هذه الثياب، وأرتدِي اللون الأسود فقط. كليبيّ، أنا آسفٌ لوقوع ما حدث" .

الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

المُدافُعونَ عن المقدّس


ما حصلَ في بنغازي مساء اليوم لا يعدُو أن يكُون نسخة مكرّرة، كليشيه لمواقف عديدة سابقة شاهدناها. نكرَةٌ ما يُنتجُ عملاً (فيلماً، أو كتاباً .. الخ) مسيئا للإسلام، تنتفضُ على إثره جموعٌ بغضبٍ بركانيّ يحرقُ ويدمّر – وفي حالة أحداث اليوم يقتُل – كل شيء في وجهه؛ دون اكتراثٍ لدم الإنسان. يقُول عليه السلام (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة).

يمتاز غالبية القائمين بهذه الأعمال بسُوء تقدير للأمور ممزوج بتوجيه خاطئ للعاطفة الدينيّة. مثلُ هذه الأعمال المُسيئة – التي نستنكرها دون شك – كان لها أن تذهب مع الرّيح دون أن يضرّ نتنُها أيّ رمزٍ مقدّس. لكنّ المتسرعين يساهمون ببراعة – كُل مرّة – في نشر هذه الأعمال والدعاية والترويج لها.

والمتفحص للسوابق المُشابهة يرى نمطاً واضحاً تؤول إليه يبتدئ بإبراز وإشهار هذه الأعمال المُسيئة. ثم يوفّر دعماً لها من المدافعين عن الحرية المطلقة للتعبير والمطالبين بتوفير الحماية الكاملة. المُحزنُ اجترارُ تلك الصورة النمطية عن المسلمين بأنهم جموع غاضبة منفعلة هدفها الوحيد الهدمُ والحرقُ والقتلُ بالإضافة إلى تكميم أي صوتٍ يختلفُ عنها.

المحزنُ أكثر أنّ جل المسلمين ممن ينفعلُ ويغضبُ للمقدّسات يتعاملُ معها بمنطقٍ تملكيّ استحواذيّ. أي أنّ منطلقه في عمله هو من باب أن هذه المقدّسات ملكٌ له وتمثيلٌ له لذا فغضبهُ جوهريا هو غضبٌ لذاتِه، وانتصارٌ لنفسه.

كما أنّ عقلية الدّفاع هذه تُوحي للمشاهد أن أتباع هذا الفكر ضُعفاء ليس لهم حجّة يقنعُون بها غيرهم، وأنّ سياستهم تعتمدُ العُنفَ وسيلة وحيدة للحوار.

الغيرة على المقدّسات صفة حسنة إن وُجّهت للتعمّق في كُنهها؛ فكم ممن خرجُوا نُصرة لرسُولهم لا يعرفُون من سيرته إلّا اليسير. كم منهم لا يستطيعُ أن يتبّع نهجه في إنكار الذّات، والصّبر على الأذى، ومعرفة الأولويّات.

يخطر في بالي مقالُ أبي طالبَ في محنة أبرهة ومشرُوع هدم الكعبة "للبيت ربٌ يحميه". المُقدّساتُ في نظري محفُوظةٌ مدَى الدّهر مهما امتدّت لها أيدي السفهاء. ولكنّ السفاهة لا تنحصرُ في الآخرين بل فينا منها الكثير.

الأربعاء، 5 سبتمبر 2012

اعتقالُ سفّاح

أولى الصور لنزول السنوسي 
صدحت مساجدُ قريبة من مطار امعيتيقة بطرابلس اليوم بالتكبير ابتهاجاً بمقدم طيّارة من موريتانيا. على متن الطائرة؛ قبعَ ذليلاً رجلٌ أسمرُ البشرة، أجعدُ الشّعر، قبحُ وجهه مرآة لقبيح عمله؛ فقُبّحَ من وجهٍ وقُبّحَ حاملُه. بدت علامات الذلّ عليه وهو يُساقُ من طائرته إلى سيارة تأخذه لأحد السُّجون التي عرفها جيّداً وطالما عذب أبناء ليبيا فيها.

عبدالله السنوسي؛ اسمٌ ارتبط بدمويّة نظام القذافي. ظلّ متوارياً عن الأنظار طيلة أربعينيّة التيه التي فرضها القذّافي. ينفذ دون تردّد كلّ عملٍ من شأنه ترسيخُ حكم الدكتاتُور. فتولّى أعمال التصفية الداخلية في الثمانينيات، وامتدّت أذرعه بعدها لتطال المعارضين في شتّى أصقاع الأرض. بلغ ذروة جبروته في أواسط التسعينيات؛ حين كان المسؤول عن مجزرة أبوسليم سيّئة الذكر.

كم يا ترى يتّمت من أطفال يا سنوسي .. ؟
كم حرمتهم حنان الأب .. ؟
كم أذرفت من دموع صبيّة فقدت سندها .. أو زوجة فقدت حبيبها .. أو أمّ ثكلت ابنها ..؟
كم منعت النّاس من عبادة ربّك يا سنُوسي ..؟
كم نكّلت بهم لتمسّكهم بإسلامهم ..؟
كم تلذّذت بتعذيب العزّل الضّعفاء ..؟

لقد كُنتَ عبداً مطيعاً لسيّدك الّذي أرسله من ثارُوا عليه ليلقى جزاءه .. ظننتَ أنّك نجوتَ ببدنك، أنّ يد القدر لن تمتدّ إليك .. أحسبتَ أن تُترك ؟ فاليومَ تعستَ بحظك، وشقيت بعملك ..

اليوم تُجرُّ بالسلاسل؛ مكبّلاً ذليلاً ..

اليومَ يهدأ بعضُ ما في صدور أولئك الذين فقدُوا أحبابهم ..
(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركُم عليهم، ويشف صدور قوم مُؤمنين، ويذهب غيظ صدورهم)
اليوم ..


يبتسمُ الشّهداءُ في علّيهم، وتكفكف دموع اليتامى والأرامل ..

لكأنّي أرى عجُوزاً .. عسَاها في النّعيم .. مع شهيديْها – الذين قتلتها حُرقة عليهما - سالم وبريّك  .. تعلمُ ما جرَى بكْ .. لتزداد الجنّة بهاءً بذاكـ ..

" غير اصبري يا عين لاتطريهم , ابريك وسالم اللي انهاتي بيهم "

الجمعة، 24 أغسطس 2012

الأخبار الليبية ، والديناميكا الحرارية ..

[ نــكـــدْ ]

جمعتني جلسة في العيد مع أحد الأقارب؛ ممن ليس لهم أدنى اهتمام بالشأن العام في ليبيا .. وكان لهُ تبرير بسيطٌ لتصرّفه، وهو أنّ (الأخبار كلها نكدْ) ..

حالة (نـكد) مُزمنة .. هكذا يمكن تلخيصُ الشعور العارم الذي ينتابُ متصفّح الأخبار الليبية منذ فترة طويلة.. انفجارٌ هنا واشتباكٌ هناكـ، والحبُل على الغارب ..

أزعمُ أنّي كمواطنٍ ليبيّ أشاركُ الكثيرين من أبناء جلدتي إحساسهم العارم بخروج الأمور عن سيطرتهم. فما باليد حيلة تجاه قضايا يُفترضُ توليها من قبل الدولة .. وليس أشدّ مرارة على النفس من الشعور بالعجز ..



لا؛ بل الأمرّ من ذلكـ هو إحساسي المتنامي بأنّ المسؤولين في ليبيا يحكمُ تصرّفاتهم مزيجٌ من اللامبالاة وعدم الكفاءة .. وزير داخليتنا مثلاً – الذي يصرّ أحد أصدقائي أن إنجازه الوحيد الظاهر للعيان هُو أنّه " سمن شويّة " منذ توليه الوزارة – خرج ليعلّق على انفجارات طرابلس التي عيّد بها أنصارُ القذافي .. خرج من علٍ؛ يتحدّث عن إنجازات وزارته، التي " نجحت في القبض على المجرمين في خلال ثلاث ساعات ".. زاد الطين بلة إعلان وزارة الداخلية بعد أيام عن مصادرة 100 دبابة بحوزة كتيبة ما بترهونة .. بطريقة لااكتراثية كأنهم صادروا مئة كيلو لحم فاسد مثلاً ..

هذا السلوك عند المسؤولين الليبيين – أعني الأسلوب التبريريّ دائماً .. فوفقاً لرواياتهم، هم دائماً يعملُون ليل نهار، وإن قصّرُوا فإنّ الظروف كانت ضدهم، وإن أخطؤوا فإنها مجرد إرث الأربعين السوداء ..

***

[ ويأتيكـَ بالأخبار ما لم تزوّد ]  

يمكنني أن أتحدّث للأبد عن أخطاء وتقصير حكومتنا منذ توليها الوزارة قبل حوالي عشرة أشهر من الآن .. لكني سأطرحُ عناوين أخبار مُستقبليّة مقتضبة تراودُ مخيّلتي أحياناً:

-         سلسلة تفجيرات متزامنة تهزّ مدناً ليبية مخلّفة قتلى وجرحَى ..
-         العاصمة الليبية طرابلس تستيقظ على محاولة انقلاب عسكريّ .. واستنفارٌ أمنيّ شامل .
-         - نزاعٌ قبليّ في ليبيا يشعلُ فتيل الحرب .. وكتائبُ الثوار تصلُ لفضّ النزاع ..
-         شبّان غاضبُون يحرقُون وزارة العمل الليبية .. وأعمال شغب عارمة ..
-         الدينارُ الليبي يصلُ أدنى مستوياته على الإطلاق .. وانهيارٌ اقتصاديّ وسط ترقّب لإعلان إفلاس ليبيا قريباً ..
-         اشتباكات تخلّف قتلى وجرحى في جامعة طرابلس إثر اقتحام مسلحين سلفيين ..
ربما لونتُ الصورة بقتامة شديدة؛ لكن يمكنني ببساطة التفكير في مئات السيناريوهات التي هي قابلة للحصُول مادامت الأمور متروكة سبهللة كما هي الآن .. وقد نبقى حبيسي هذه الدائرة النكديّة بشكل مزمن ..

**

[ نواميس الكون ]

يقرّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية أن الأشياء في هذا الكون تؤول إلى حالة من الفوضى كلما تركت للزمن .. أي أنّ الاتّجاه نحو الفوضى هو المسارُ الطبيعي للأمور .. فالماء المسكوب مثلاً لا يمكن أن يتوقع منه أن يأخذ شكلاً معيناً؛ بل يتجه إلى الانتشار العشوائيّ ..

يحدّثنا هذا القانون الطبيعيّ أيضاً أنّ الانتقال من حالة الفوضى إلى النّظام لا يكون إلا ببذل قدر معيّن من الطاقة في سبيل ذلكـ .. وأنّ هذا يجبُ أن يكون خيارًا واعياً .. فالاتجاهُ للنظام ليس خياراً تلقائيا .. فلإعادة الماء المسكُوب إلى وعائه لابد من عمليّة واعية تبذل فيها طاقة معيّنة للوصول إلى حالة النظام المنشودة ..
كذلك أرى الأمور في ليبيا .. آيلة للفوضى ما تركت هكذا ..

**
من أجل أن ننتقل إلى حالة النظام، ربما سيكون على قريبي الذي يعتزلُ الأخبار أن يهتم أكثر بالشأن العام .. ربّما يجبُ على وزير الداخليّة أن يدرس الديناميكا الحراريّة ليفهمَ سنن الكون .. أو ربّما من الأفضل لي أن أقلّد الآخرين في نظرتهم المفرطة في الورديّة للمستقبل .. لكنّي أعلمُ أنّ نواميسَ الكون لا تُحابِي أحداً ..

كان (إدوارد مورفي) مهندس طيران أمريكيّ مختصّاً في أنظمة السلامة .. وقد قال كلمة جرت بها الألسن واشتهرت في اللغة الإنجليزية .. يقُول فيها
" أي شيء لديه إمكانيّة الخراب، سيخرب "Anything that can go wrong will go wrong."

عندما نستيقظ على الخراب سنوقن أنّ وقود " البركة " الذي يسيّر البلاد على رأي البعض سينفدُ لا محالة .. وعندها، لات ساعة مندم ..


كل المدونات الليبية